والسعادة الحقيقية لا تكمن في جمع المال ، ولا رفع البنيان ، ولا علوِّ الدرجات الدنيوية ، ولكنها تكمن في الإتباع للنبي
[
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ] [آل عمران/31] ، أي الإتباع الحق في كل ما جاء به النبي
لقوله
: ((
فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ )) رواه أبو داود والترمذي .
والإتباع يا عباد الله يُولد التقوى في صدور الموحدين ، وإذا بلغ العبد مرحلة التقوى فقد حصَّل السعادة الحقيقية ، وصدق القائل لما قال :
ولست أرى السعادة جمع مالٍ ***** ولــكــن التقيًّ هو السـعيدُ
والسعادة لها أسباب منها : العمل الصالح ، أي الخالي من الرياء والبدع لقوله سبحانه : [
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ] [النحل/97] ، والزوجة الصالحة لقوله سبحانه : [
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ] [الفرقان/74] ، والبيت الواسع لقوله
: ((
اللهم وَسِّعْ لي في دارى )) رواه الترمذي ، والكسب الطيب لقوله
: ((
إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا )) رواه مسلم ، وحسن الخلق ، والتودد للناس لقوله سبحانه عن عسي [
وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ ] [مريم/31] ، والسلامة من الدَّين ، ومن الإسراف في النفقة لقوله سبحانه : [
وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا ] [الإسراء/29] ، واعلموا أن السعادة لها مقومات
ومكونات وعلامات ، فأمَّا المقومات فهي : القلبُ الشاكر واللسان الذاكر ، والبدن الصابر .
شكر وذكر وصبر فيها نعيم وأجرُ
وأما المكونات فأنها تنحصر في حديث الرسول
: ((
مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بحذافيرها )) رواه الترمذي أي إذا حصل المسلم على الغذاء وعلى المأوى ، وكان آمناً فقد حصَّل أحسن السعادات ، وأجلَّ القربات ، وأفضل الخيرات وأما العلامات فهي كما يقول ابن القيم -رحمه الله- : "أن العبد كلما زيد له في علمه زيد في تواضعه ورحمته ، وكلما زيد في عمله زيد في خوفه وحذره ، وكلما زيد في عمره نقص من حرصه ، وكلما زيد في ماله زيد في سخائه وبذله ، وكلما زيد في قدره وجاهه زيد في قربه من الناس وقضاء حوائجهم والتواضع لهم" .
والسعادة ليست في كنوز قارون ، ولا في قصور كسري وقيصر ، بل تتمثل في صور عديدة عند الأتقياء والصالحين ، فقد تُمُثِّلت عند الصحابة رضي الله عنهم مع قلة ذات اليد ، وشظف العيش في تقوى الله رب العالمين ، ثم تمثلت عند ابن المسيب في تقواه ، وعند الحسن البصري في صِدْقِهِ ، وعند مالك في مُراقبته ، وعند الشافعي في استنباطاته ، وأحمد فى ورعه ، وعند البخاري في صحيحه ، وعند صلاح الدين في جهاده .
وإليكم بعض النماذج التي تُجَسِّد السعادة في أزهى صورها ..
فهذا هو إبراهيم بن أدهم يقول لرفيق له وهما يأكلان الخبز اليابس المبلل بالماء على شاطئ دجلة : "نحن في نعمة لو علِمها الملوك وأبناء الملوك لجالدونا عليها بالسيوف" .
ويُسْأل يوماً عن سبب طمأنينته في الأفراحِ والأتراحِ فيقول : "علمت أن رزقي لن يأخذه غيري فاطمأن قلبي ، وعلمت أن عملي لن يقوم به سواى فاشتغلتُ به ، وعلمت أن الله مطلع علىِّ فاستحييت أن أعصيه وهو يراني ، وعلمت أن الموت قادم فأعددت الزاد للقاء الله" .